قصيدة اللغة العربية تتحدث عن نفسها
رَجَعتُ لِنَفسي فَاِتَّهَمتُ حَصاتي، وَنادَيتُ قَومي فَاِحتَسَبتُ حَياتي
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني، عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسي، رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدتُ بَناتي
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً، وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ، وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ، فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني، وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني، أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحينَ وَفاتي
أَرى لِرِجالِ الغَربِ عِزّاً وَمَنعَةً، وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ
أَتَوا أَهلَهُم بِالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً، فَيا لَيتَكُم تَأتونَ بِالكَلِماتِ
أَيُطرِبُكُم مِن جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ، يُنادي بِوَأدي في رَبيعِ حَياتي
وَلَو تَزجُرونَ الطَيرَ يَوماً عَلِمتُمُ، بِما تَحتَهُ مِن عَثرَةٍ وَشَتاتِ
سَقى اللَهُ في بَطنِ الجَزيرَةِ أَعظُماً، يَعِزُّ عَلَيها أَن تَلينَ قَناتي
حَفِظنَ وِدادي في البِلى وَحَفِظتُهُ، لَهُنَّ بِقَلبٍ دائِمِ الحَسَراتِ
وَفاخَرتُ أَهلَ الغَربِ وَالشَرقُ مُطرِقٌ، حَياءً بِتِلكَ الأَعظُمِ النَخِراتِ
أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً، مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
وَأَسمَعُ لِلكُتّابِ في مِصرَ ضَجَّةً، فَأَعلَمُ أَنَّ الصائِحينَ نُعاتي
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ، إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى، لُعابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً، مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ، بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي
فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيتَ في البِلى، وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي
وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ، مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ.
شرح اللغة العربية تتحدث عن نفسها
يقول الشاعر على لسان اللغة العربية التي تتحدث عنها نفسها تأملت نفسي فاتهمت عقلي وناديت قومي فاحتسبت حياتي أي وهبتها لله، وتقول اللغة العربية بأن قومها اتهموها في شبابها وأولى أيامها بالعقم ( أي أنها لا تلد)، وتتمنى لو أنها كانت عقيمة حتى لا يضايقها ويحزنها قول أعدائها عنها، وتقول أنها ولدت بالفعل بناتًا فلما لم تجد لهم رجالًا يكونون أكفاء لهم وأدت بناتها (أي دفنتهم أحياءًا، وتتكلم اللغة العربية عن أنها استطاعت أن تسع القرآن الكريم لفظًا ومعنى، ولم تقصر في حق إظهار معناه، فكيف يتهموني اليوم أني أعجز عن وصف آلة، أو مخترعات جديدة، وتقول عن نفسها أنها البحر الذي يحوي في باطنه الصدفات التي تحوي داخلها الدرر، فكيف تقولون أني بليت وبلت محاسني مع مرور الزمن، ومنكم الأطباء الذين يستطيعون مداواتي فلا تتركوني حتى أموت وأبلى، فإني أخاف عليكم أن تفقدوني، انظروا إلى الحضارات من حولكم فكم من الرجال علا وعز مجدهم بلغتهم، فقد استطاعوا أن يأتوا بالكلمات المناسبة التي لا تسعون لها، فلقد حجمتم عن استخدام لغتكم إلا في الإخبار بأخبار السوء، وتقول أنها يصعب هزيمتها وإضعافها.
تقول اللغة العربية أنها تشعر بالحسرة من قومها، وتحتفظ بالود لهم في نفس الوقت، وأنها مازالت تحتفظ برونقها أمام الغرب حتى وإن خارت عظامها، وتقول أنها ترى مكانتها تنزلق وتهوى بها إلى القبر كل يوم في الجرائد، وأن الكتاب المصريون ينعونها، ويهجوها قومها في حين أنهم يناصرون لغةً ليس لها أصلًا لوثها ضعاف البيان بالمصطلحات الضعيفة الواهية، وتنهى كلامها بأنها تريد إما أن يُبعث فيها الحياة من جديد وإما أن تنتهي إلى الأبد.
مؤلف قصيدة اللغة العربية تتحدث عن نفسها
الشاعر حافظ إبراهيم (شاعر النيل) .
مؤلف قصيدة اللغة العربية تتحدث عن نفسها) هو شاعر النيل الشاعر حافظ إبراهيم المولود في محافظة أسيوط في 24 فبراير 1872، والمتوفى في 1932م، وهو من أشهر الشعراء المصريين، وقد لُقِّب بشاعر النيل، أو شاعر الشعب، وإليك نبذة عن حياته :
وُلِد حافظ إبراهيم على متن سفينة كانت واقفة في المرسى الكائن على نهر النيل أمام ديروط بمحافظة أسيوط، وقد وُلِد لأبٍ مصري وأمٍ تركية، عاش يتيمًا حيث توفي والده في صغره، وعاش مع أمه عند خاله في القاهرة ولكنه انتقل إلى مدينة طنطا بعد ذلك بعدما أثر في نفسه ضيق الرزق الذي كان يعانيه خاله الذي كان يعمل مهندسًا في مصلحة التنظيم، وضيق الحال هو ما دفعه لترك القاهرة ومنزل نشأته.
عاش إبراهيم حافظ 60 عامًا من العطاء لم يصبه الوهن ولم تتأثر ذاكرته القوية، فقد حفظ آلاف القصائد العربية ما بين قديمٍ وحديث ومئات المطالعات والكتب حتى أنه أصدقائه يشهدون على قدرته على قراءة كتاب أو ديوان من الشعر العربي في خلال دقائق قراءة سريعة ويمكنه بعدها أن يذكر بعض الأبيات أو الفقرات ويستشهد بها من هذا الكتاب أو الديوان، فقد كان أعجوبة زمانه، وروى بعض أصدقائه أنه عندما كان مقيمًا في بيت خاله كان يستمع إلى القرآن ويقرأه بنفس التلاوة التي سمعها عن المقرئ ومن رأسه، وكان يقرأ عليهم سورة مريم وطه والكهف، فقد كان يحفظ بمجرد السماع لأول مرة.
مر إبراهيم حافظ في الفترة من 1911 إلى 1932 بفترة من اللامبالاة والكسل وتوقف عن تنمية مخزونه الفكري والثقاافي، وقد كان في تلك الفترة يرأس القسم الأدبي لدار الكتب ورغم ذلك لم يقرأ كتابًا واحدًا من كتب دار المعارف على الرغم من سهولة وصوله للكتب التي يود قراءتها، يقول البعض أنه سأم من القراءة بسبب توفر الكتب بكثرة حوله، وقال البعض أن نظره ضعف في تلك الفترة وأنه خاف أن يلقى المصير ذاته الذي لقيه البارودي في نهاية حياته، عُرف عن حافظ تبذيره الشديد للمال، فقد قال عنه العقاد : (مرتب سنة في يد حافظ إبراهيم يساوي مرتب شهر)، ومما روي عن عجائب تبذيره أنه استأجر قطارًا كاملًا بعد مواعيد العمل الرسمية ليصل إلى حلوان بمفرده (مكان سكنه).
يمكن أن نقول أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيار في كتاباته ولكنه اشتهر بجزالة كلماته وقوة تراكيب جمله وحسن صياغة أفكاره، كما أن الجميع قالوا عنه أنه أحسن خلق الله إنشادًا للشعر، وقد أنشد حافظ الشعر في عدة مناسبات ومن أشهرها حفلة تكريم ومبايعة أحمد شوقي بك ليكون أميرًا للشعر في دارالأوبرا الخديوية، وهناك أيضًا القصيدة التي أنشدها في ذكرى رحيل الزعيم مصطفى كامل، وقد أدي أثناء إنشاده أداءًا مسرحيًا مؤثرًا، ولم يتميز الكثير من الشعراء بمهارة إلقاء الشعر كما تميز بها حافظ إبراهيم، أحمد شوقي أمير الشعراء بذاته لم يستطع أن يُلقِ قصيدةً في حياته، وعندما حاول تلعثم، فقد كان حافظ مميزًا كما لم يكن غيره.
مواضيع ذات صلة