شرح قصيدة تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
تعد قصيدة تجري الرياح بما لا تشتهي السفن من أهم القصائد العربية القديمة، وقد اشتهرت تحت ذلك الاسم لاحتوائها على الحكمة القائلة تجري الرياح بما لا تشتهي السفن كدليل على الامتثال للأقدار والتعبير عن خيبة الأمل، ولكن اسم القصيدة الأصلي هو بم التعلل، وقد قيلت في العصر العباسي على لسان الشاعر أبي الطيب المتنبي.
بإطلالة على القصيدة، نجد أن المتنبي قد بدأها بالشكوى، بخلاف القصائد الكلاسيكية بالوقوف على الأطلال، مما يعكس الحالة النفسية للمتنبي في هذا الوقت، وخيبات الأمل التي لحقت بعلاقته مع سيف الدولة التي تشكلت بشكل خاص بينهما، لكنها انتهت بصدمة وخيبة أمل المتنبي، فهو لم يصل لأي منصب أراده.
وتعتبر قصيدة المتنبي نموذجا للعتاب، فهو هنا يعاتب سيف الدولة، ويعرض مواقفه تجاه شائعات روجها حاسدوه أنه مات، كما تعتبر نقطة تحول في حياة المتنبي وعلاقته بسيف الدولة، إذ وصل عتابه الى حد قريب من الهجاء، لذا فقد توجه بعدها إلى مصر، ومدح حاكمها كافور الاخشيدي.
تحليل الجزء الأول من القصيدة
تقول الأبيات:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني
ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ
مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورٌ ما سُرِرتَ بِهِ
وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ
هَوُوا وَما عَرَفوا الدُنيا وَما فَطِنوا
تبدأ قصيدة الشاعر بسؤال استنكاري يعبّر عن فقدانه لأشياء تمنحه السعادة والراحة النفسية، إذ هو بعيد عن أهله ووطنه، ولا يمتلك أي اهتمامات تسري عنه، ويفتقد صديقًا مقربًا حتى درجة أنه يشعر بالغربة، ويعبّر الشاعر بكلمات مؤثرة عن حرمانه من الأسس الأساسية للحياة الاجتماعية والإنسانية، يتحدث الشاعر بحزن ويوجه كلامه إلى زمانه وكأنه يخاطب شخصًا موجودًا أمامه، يطلب منه أن يساعده في تحقيق طموحه العالي الذي يعجز الزمن نفسه عن تحقيقه.
بعد ذلك يعود الشاعر ويخاطب المتلقي بحكمة، ينصحه بعدم الاهتمام بظروف الزمن طالما أنه حيٌّ، فهي تمر وتزول، والشيء الذي لا يمكن تعويضه إذا فات هو الروح فقط، فالسرور والحزن ليسا دائمين، ويمكن استخلاص ذلك من حالة العاشقين المتقلبة، يتكرر استخدام الزمن في القصيدة بهدف تكثيف المعنى وتسليط الضوء عليه، كما يستخدم الشاعر أيضًا العديد من التقنيات الشعرية المتقنة، مثل الجناس غير التام والالتفات، لتعزيز الفكرة التي يرغب في التعبير عنها.
تحليل الجزء الثاني من القصيدة
تقول الأبيات:
تَحَمَّلوا حَمَلَتكُم كُلُّ ناجِيَةٍ
فَكُلُّ بَينٍ عَلَيَّ اليَومَ مُؤتَمَنُ
ما في هَوادِجِكُم مِن مُهجَتي عِوَضٌ
إِن مُتُّ شَوقاً وَلا فيها لَها ثَمَنُ
يا مَن نُعيتُ عَلى بُعدٍ بِمَجلِسِهِ
كُلٌّ بِما زَعَمَ الناعونَ مُرتَهَنُ
كَم قَد قُتِلتُ وَكَم قَد مُتُّ عِندَكُمُ
ثُمَّ اِنتَفَضتُ فَزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
قَد كانَ شاهَدَ دَفني قَبلَ قَولِهِمِ
جَماعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبلَ مَن دَفَنوا
في هذا الجزء من القصيدة يخاطب الشاعر سيف الدولة الحمداني وأعوانه، وذلك بعد أن وصلته أنباء وفاة المتنبي في جلسة المجلس بينهم، يؤكد الشاعر لسيف الدولة وأعوانه أن الجميع عرضة للموت الذي لا مفر منه، ولا ينبغي لأحد أن يفرح بنعي المتوفى، ويخبره تجدر بأن هذا الأمر حدث مرارًا في مجالسه، حيث زعم البعض في السابق كيدًا بقتل المتنبي، ثم تبين بعد ذلك أنه لا زال على قيد الحياة.
ويكمل المتنبي أنه ربما كانت تلك الإشاعات تجعل الناس يعتقدون بموته ولكنه حي، وهكذا يمكن اعتباره كأنه خرج لهم من القبر، ويعبر الشاعر من خلال ذلك عن تحرره من الأذى الذي تسببت فيه تلك الشائعات عن وفاته، حيث تبيَّن بوضوح كذبهم بعد أن توفى الذين زعموا أنهم شهدوا جنازته.
تحليل الجزء الثالث من القصيدة
تقول الأبيات: ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ
تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ
رَأَيتُكُم لا يَصونُ العِرضَ جارُكُمُ
وَلا يَدِرُّ عَلى مَرعاكُمُ اللَبَنُ
جَزاءُ كُلِّ قَريبٍ مِنكُمُ مَلَلٌ
وَحَظُّ كُلِّ مُحِبٍّ مِنكُمُ ضَغَنُ
وَتَغضَبونَ عَلى مَن نالَ رِفدَكُمُ
حَتّى يُعاقِبَهُ التَنغيصُ وَالمِنَنُ
فَغادَرَ الهَجرُ ما بَيني وَبَينَكُمُ
يَهماءَ تَكذِبُ فيها العَينُ وَالأُذُنُ
يرى الشاعر أن الرياح تتصرف بشكل غير متوقع أحيانًا، حيث قد تتعاكس وتعارض حركة السفن في البحر، ويستخدم هذا المثال للإشارة إلى أن الناس في الحياة يواجهون أوقاتًا لا يمكنهم فيها تحقيق رغباتهم وأمانيهم، ولا يتحقق لهم دائمًا ما يصبون اليه، وبالرغم من أن بعض الأشخاص قد تمنوا سوءًا وشرًا للشاعر، إلا أن أمنياتهم لم تتحقق ولم يصب أي ضرر.
بعد ذلك يبدأ الشاعر في سخريته من سيف الدولة وأتباعه، مشيرًا إلى أن نعمتهم مصحوبة بالمشاكل والمتاعب، وبالتالي لا يمكن لأي شخص أن يستمتع بتلك النعمة أو ينتفع منها بشكل يذكر، يستخدم الشاعر صورة فنية تصف حالة الماشية التي ترعى في أراضيهم، حيث لا تنتج الحليب بكميات كافية بسبب سوء جودة العشب، وكذلك من يعيش بجوارهم دائمًا مُهاجَم ومعاب.
بالتالي يدعو الشاعر إلى أن يقع الانفصال بينه وبين هؤلاء الأشخاص ويرتحل الى أرض جديدة، حيث يمكن للعين أن ترى الحقيقة والآذان أن تسمع الصدق، وحيث لا يوجد شيء زائف مثل ادعاءاتهم.
السمات المميزة لأسلوب المتنبي
تميز أسلوب الشاعر أبي الطيب المتنبي بعدة سمات، وهي كما يلي:
استعمال أسلوب الحكمة: استعمل الشاعر أبيات الحكمة خاصة في الجزء الثاني والثالث منها، والغرض من ذلك الشعارية أي اتخاذ قول ما كشعار، وإظهار فلسفة وحكمة القائل.
التقسيم: وهو البدء بكلام وتقسيمه حتى انتهاء المعاني والغايات والأبعاد من ورائه، وقد برع المتنبي في ذلك كما ظهر ذلك في البيت الأول، حيث قسم التعلل المفقود بالأهل والوطن والنديم والكأس والسكن، وظهر أيضا في قوله في البيت الرابع فقد أورد عدم دوام السرور، وقسمه بأنه لو أتي بالحزن وبالندم، فهما لا يعيدان الماضي.
استخدام الفعل المضارع: استخدم المتنبي الأفعال المضارعة بآلية وهيئة وبيان معين تدل على الاستمرارية وعدم انقطاع الفعل والثبات على الحال، فمن هذه الأفعال تأتي، لا يدر، أصاحب، ألذ.
الترادف اللفظي: ويعني أن يأتي بقول أو لفظ ثم يتبعه بمرادفاته المختلفة، مثل قوله نديم يقابلها كأس، عرفوا يقابلها فطنوا، جزاء يقابلها حظ، والغرض من ذلك حشد المعاني والتأكيد عليها، والتعبير عن الذات المتكلمة بفصاحة.
مواضيع ذات صلة